فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما ذكر أنهم جعلوا له أندادًا مع أنه خلق الأرض في يومين، وختم ذلك بأن أحسن الحسن الدعاء إلى الله، وختم الأمر بالدعاء بصفة العلم، أتبعه دلائل التوحيد إعلامًا بأن التوحيد أحسن الحسن يطرد كل شيء، وتنبيهًا على أن الدعوة إلى الله تعالى عبارة عن تنوير الدلائل الدالة على الذات والصفات، وذلك ببيان الأفعال وآثارها وهو العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض جوهرًا وعرضًا، وبدأ بذكر الفلكيات لأنها أدل، فقال عاطفًا على ما تقديره: فمن آياته الناشئة عن شمول علمه المستلزم لشمول قدرته المنتجة لإعادته لمن يريد ونفوذ تصرفه في كل ما يشاء المستلزم لتفرده بالإلهية أنه خلق الخافقين كما مضى في ستة أيام: {ومن آياته} الدالة على وحدانيته:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه الواحد

ولما كانت الظلمة عدمًا والنور وجودًا والعدم مقدم قال: {الليل والنهار} أي الدالاّن باختلافهما وهيئتهما على قدرته على البعث وعلى كل مقدور {والشمس والقمر} اللذان هما الليل والنهار كالروح لذوي الأجساد، وهذه الموجوات- مع ما مضى من خلق الخافقين- كتاب الملك الديان، إلى الإنس والجان، المشهود لهم بالعيان كما قيل يا إنسان:
تأمل سطور الكائنات فإنها ** من الملك الأعلى إليك رسائل

وقد خط فيها لو تأملت خطة ** إلا كل شيء ما خلا الله باطل

ولما ثبت له سبحانه التفرد بالخلق والأمر، وكان باطنًا إلا عند من نور الله أو كانت الشمس والقمر من آياته المعرفة المشيرة في وجود الدنيا والآخرة إليه، وكانا مشاهدين، وكان الإنسان قاصر العقل مقيد الوهم بالمشاهدات لما عنده من الشواغل إلا من عصم الله، أنتج قوله محذرًا من عبادتهما لما يرى لهما من البهاء وفيهما من المنافع: {لا تسجدوا للشمس} التي هي أعظم أوثانكم فإنها من جملة مبدعاته، وأعاد النافي تأكيدًا للنفي وإفادة لأن النهي عن كل منهما على حدته ولذلك أظهر موضع الإضمار فقال: {ولا للقمر} كذلك.
ولما نهى عن السجود لهما، أمر بالسجود بما يبين استحقاقه لذلك وعدم استحقاقهما أو استحقاق شيء غيرهما له فقال: {واسجدوا} ونبه على مزيد عظمته بالإظهار موضع الإضمار فقال: {لله} أي الذي له كل كمال من غير شائبة نقص من أقول أو تجدد حلول {الذي خلقهن} أي الأربعة لأجلكم فهو الذي يستحق الإلهية، وأنث لأن ما لا يعقل حكمه حكم المؤنث في الضمير وهي أيضًا آيات، وفيه إشارة إلى تناهي سفولها عما أهلوها له وذم عابديها بالإفراط في الغباوة، ويمكن أن يكون عد القمر أقمارًا لأنه يكون تارة هلالًا وأخرى بدرًا وأخرى محوًا، فلذلك جمع إشارة إلى قهرهما بالتغيير له في الجرم ولمهما بالتسيير، ولذلك عبر بضمير المؤنث الذي يكون لجمع الكثرة مما لا يعقل.
ولما ظهر أن الكل عبيده، وكان السيد لا يرضى بإشراك عبده عبدًا آخر في عبادة سيده قال: {إن كنتم إياه} أي خاصة بغاية الرسوخ {تعبدون} كما هو صريح قولكم في الدعاء في وقت الشدائد لاسيما في البحر، ومحصل قولكم {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} فإن أشركتم به شيئًا بسجود أو غيره فما خصصتموه بالعبادة لأن السجود من العبادة وفعله ولو في وقت واحد لغيره إشراك في الجملة، ومن أشرك به لم يعبده وحده، ومن لم يعبده وحده لم يعبده أصلًا، لأنه أغنى الأغنياء، لا يقبل إلا الخالص وهو أقرب إلى عباده من كل شيء فيوشك أن ينتقم بإشراككم، وفي الآية إشارة إلى الحث على صيانة الآدميين عن أن يقع منهم سجود لغيره رفعًا لمقامهم عن أن يكونوا ساجدين لمخلوق بعد أن كانوا مسجودًا لهم، فإنه سبحانه أمر الملائكة الذين هم أشرف خلقه بعدهم بالسجود آدم وهم في ظهره فتكبر اللعين إبليس، فابد لعنه، فشتان ما بين المقامين.
ولما كانوا في هذا الأمر بين طاعة ومعصية، وكان درء المفاسد مقدمًا، سبب عن ذلك قوله معبرًا بأداة الشك تنبيهًا لهم على أن استكبارهم بعد إقامة هذه الأدلة ينبغي أن لا يتوهم، وصرف القول إلى الغيبة تحقيرًا لهم وإبعادًا على تقدير وقوع ذلك منهم {فإن استكبروا} أي أوجدوا الكبر عن اتباعك فيما أمرتهم به من التوحيد فلم يوحدوا الله ولم ينزهوه تعالى عن الشريك {فالذين عند} وأظهر موضع الإصخار معبرًا بوصف الإحسان بشارة له ونذارة لهم {ربك} خاصة لا عندهم لكونهم مقربين لديه في درجة الرضاء والكرامة ولكونهم مما يستغرق به الآدميون ولكون الكفار لا قدرة لهم على الوصول إليهم بوجه: {يسبحون له} أي يوقعون التنزيه عن النقائص ويبعدون عن الشركة لأجل علوه الأقدس وعزه الأكبر لا لشيء غيره إخلاصًا في عبادته وهم لا يستكبرون.
ولما كان حال الكفار في الإخلاص مختلفًا في الشدة والرخاء، أشار إلى تقبيح ذلك منهم بتعميم خواصه عليهم الصلاة والسلام بالإخلاص حالتي الإثبات الذي هو حالة بسط في الجملة، والمحو الذي هو حالة قبض كذلك يجددون هذا التنزيه مستمرين عليه في كل وقت فقال: {بالليل والنهار} أي على مر الملوين وكر الجديدين لا يفترون.
ولما كان في سياق الفرص لاستكبارهم المقتضي لإنكارهم، أكد بالعاطف والضمير فقال مؤذنًا بأن هذا ديدنهم لا ينفكون عنه: {وهم} أي والحال أنهم على هذا الدوام {لا يسئمون} أي لا يكاد لهم في وقت من الأوقات فتور ولا ملل، فهو غني عن عبادة هؤلاء بل وعن عبادة كل عابد، والحظ الأوفر لمن عنده وأما هو سبحانه فلا يزيده شيئًا ولا ينقصه شيء فدع هؤلاء أن استكبروا وشأنهم، فيعلمون من الخاسر، فالآية من الاحتباك: ذكر الاستكبار أولًا دليلًا على حذفه ثانيًا والتسبيح ثانيًا دليلًا على حذفه أولًا، وسر ذلك أنه ذكر أقبح ما لأعدائه وأحسن ما لأوليائه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة} وعلم أنا بينا أن الكلام من أول السورة ابتدىء من أن الله حكى عنهم أنهم قالوا {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] فأظهروا من أنفسهم الإصرار الشديد على أديانهم القديمة وعدم التأثر بدلائل محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنه تعالى أطنب في الجواب عنه وذكر الوجوه الكثيرة وأردفها بالوعد والوعيد، ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي قولهم {لا تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] وأجاب عنها أيضًا بالوجوه الكثيرة، ثم إنه تعالى بعد الإطناب في الجواب عن تلك الشبهات رغب محمدًا صلى الله عليه وسلم في أن لا يترك الدعوة إلى الله فابتدأ أولًا بأن قال: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} فلهم الثواب العظيم ثم ترقى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى وهي أن الدعوة إلى الله من أعظم الدرجات، فصار الكلام من أول السورة إلى هذا الموضع واقعًا على أحسن وجوه الترتيب، ثم كأن سائلًا سأل فقال إن الدعوة إلى الله وإن كانت طاعة عظيمة، إلا أن الصبر على سفاهة هؤلاء الكفار شديد لا طاقة لنا به، فعند هذا ذكر الله ما يصلح لأن يكون دافعًا لهذا الإشكال فقال: {وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة} والمراد بالحسنة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدين الحق، والصبر على جهالة الكفار، وترك الانتقام، وترك الالتفات إليهم، والمراد بالسيئة ما أظهروه من الجلافة في قولهم {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} وما ذكروه في قولهم {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ} فكأنه قال يا محمد فعلك حسنة وفعلهم سيئة، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، بمعنى أنك إذا أتيت بهذه الحسنة تكون مستوجبًا للتعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة، وهم بالضد من ذلك، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعًا لك من الاشتغال بهذه الحسنة.
ثم قال: {ادفع بالتي هي أَحْسَنُ} يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق، فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى، ولم تقابل سفاهتهم بالغضب ولا إضرارهم بالإيذاء والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة.
ثم قال: {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} يعني إذا قابلت إساءتهم بالإحسان، وأفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ومن البغضة إلى المودة، ولما أرشد الله تعالى إلى هذا الطريق النافع في الدين والدنيا والآخرة عظمة فقال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ} قال الزجاج: أي وما يلقى هذه الفعلة إلا الذين صبروا على تحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام.
ثم قال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ} من الفضائل النفسانية والدرجة العالية في القوة الروحانية، فإن الاشتغال بالانتقام والدفع لا يحصل إلا بعد تأثر النفس، وتأثر النفس من الواردات الخارجية لا يحصل إلا عند ضعف النفس فأما إذا كانت النفس قوية الجوهر لم تتأثر من الواردات الخارجية، وإذا لم تتأثر منها لم تضعف ولم تتأذ ولم تشتغل بالانتقام، فثبت أن هذه السيرة التي شرحناها لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم من قوة النفس وصفاء الجوهر وطهارة الذات، ويحتمل أن يكون المراد: وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من ثواب الآخرة، فعلى هذا الوجه قوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} مدح بفعل الصبر، وقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ} وعد بأعظم الحظ من الثواب.
ولما ذكر هذا الطريق الكامل في دفع الغضب والانتقام، وفي ترك الخصومة ذكر عقيبه طريقًا آخر عظيم النفع أيضًا في هذا الباب، فقال: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} وهذه الآية مع ما فيها من الفوائد الجليلة مفسرة في آخر سورة الأعراف على الاستقصاء، قال صاحب الكشاف النزغ والنسغ بمعنى واحد وهو شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان، كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي وجعل النزغ نازغًا، كما قيل: جد جده أو أُريد {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ} نازغ وصفًا للشيطان بالمصدر، وبالجملة فالمقصود من الآية وإن صرفك الشيطان عما شرعت من الدفع بالتي هي أحسن، فاستعذ بالله من شره، وامض على شأنك ولا تطعه، والله أعلم.
{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى أردفه بذكر الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وحكمته، تنبيهًا على أن الدعوة إلى الله تعالى عبارة عن تقرير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته، فهذه تنبيهات شريفة مستفادة من تناسق هذه الآيات، فكان العلم بهذه اللطائف أحسن علوم القرآن، وقد عرفت أن الدلائل الدالة على هذه المطالب العالية هي العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض، فبدأ هاهنا بذكر الفلكيات وهي الليل والنهار وإنما قدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيهًا على أن الظلمة عدم، والنور وجود، والعدم سابق على الوجود، فهذا كالتنبيه على حدوث هذه الأشياء، وأما دلالة الشمس والقمر والأفلاك وسائر الكواكب على وجود الصانع، فقد شرحناها في هذا الكتاب مرارًا، لاسيما في تفسير قوله: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [الفاتحة: 2] وفي تفسير قوله: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السموات والأرض} [الأنعام: 1].
ولما بيّن أن الشمس والقمر محدثان، وهما دليلان على وجود الإله القادر قال: {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ} يعني أنهما عبدان دليلان على وجود الإله، والسجدة عبارة عن نهاية التعظيم فهي لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات، فقال: {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ} لأنهما عبدان مخلوقان {واسجدوا لِلَّهِ} الخالق القادر الحكيم، والضمير في قوله: {خَلَقَهُنَّ} لليل والنهار والقمر، لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث، يقال للأقلام بريتها وبريتهن، ولما قال: {ومّنْ ءاياته} كن في معنى الإناث فقال: {خَلَقَهُنَّ} وإنما قال: {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} لأن ناسًا كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن لا يسجدوا إلا لله الذي خلق الأشياء، فإن قيل إذا كان لابد في الصلاة من قبلة معينة، فلو جعلنا الشمس قبلة معينة عند السجود كان ذلك أولى، قلنا الشمس جوهر مشرق عظيم الرفعة عالي الدرجة، فلو أذن الشرع في جعلها قبلة في الصلوات، فعند اعتياد السجود إلى جانب الشمس ربما غلب على الأوهام أن ذلك السجود للشمس لا لله، فلأجل الخوف من هذا المحذور نهى الشارع الحكيم عن جعل الشمس قبلة للسجود، بخلاف الحجر المعين فإنه ليس فيه ما يوهم الإلهية، فكان المقصود من القبلة حاصلًا والمحذور المذكور زائلًا فكان هذا أولى، واعلم أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن موضع السجود هو قوله: {تَعْبُدُونَ} لأجل أن قوله: {واسجدوا لِلَّهِ} متصل به، وعند أبي حنيفة هو قوله: {وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ} لأن الكلام إنما يتم عنده.
ثم إنه تعالى لما أمر بالسجود قال بعده {فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بالليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْأمُونَ} وفيه سؤالات:
السؤال الأول: إن الذين يسجدون للشمس والقمر يقولون نحن أقل وأذل من أن يحصل لنا أهلية عبودية الله تعالى، ولكنا عبيد للشمس وهما عبدان لله، وإذا كان قول هؤلاء هكذا، فكيف يليق أن يقال إنهم استكبروا عن السجود لله؟ والجواب: ليس المراد من لفظ الاستكبار ما ذكرتم، بل المراد فإن استكبروا عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر.
السؤال الثاني: أن المشبهة تمسكوا بقوله: {فالذين عِندَ رَبّكَ} في إثبات المكان والجهة لله تعالى والجواب: أنه يقال عند الملك من الجند كذا وكذا، ولا يراد به قرب المكان.
فكذا ههنا.
ويدل عليه قوله «أنا عند ظن عبدي بي وأنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي في مقعد صدق عند مليك مقتدر» ويقال عند الشافعي رضي الله عنه إن المسلم لا يقتل بالذمي.
السؤال الثالث: هل تدل هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر؟ الجواب: نعم، لأنه إنما يستدل بحال الأعلى على حال الأدون، فيقال هؤلاء الأقوام إن استكبروا عن طاعة فلان فالأكابر يخدمونه ويعترفون بتقدمه، فثبت أن هذا النوع من الاستدلال إنما يحسن بحال الأعلى على حال الأدون.
السؤال الرابع: قال هاهنا في صفة الملائكة {يَسْبَحُونَ له بالليل والنهار} فهذا يدل على أنهم مواظبون على التسبيح، لا ينفكون عنه لحظة واحدة، واشتغالهم بهذا العمل على سبيل الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال ككونهم ينزلون إلى الأرض كما قال: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] وقال: {وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الحجر: 51] وقوله تعالى: {عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6] الجواب: إن الذين ذكرهم الله تعالى هاهنا بكونهم مواظبين على التسبيح أقوام معينون من الملائكة وهم الأشراف الأكابر منهم، لأنه تعالى وصفهم بكونهم عنده، والمراد من هذه العندية كمال الشرف والمنقبة، وهذا لا ينافي كون طائفة أخرى من الملائكة مشتغلين بسائر الأعمال، فإن قالوا هب أن الأمر كذلك إلا أنهم لابد وأن يتنفسوا، فاشتغالهم بذلك التنفس يصدهم عن تلك الحالة من التسبيح قلنا كما أن التنفس سبب لصلاح حال الحياة بالنسبة إلى البشر فذكر الله تعالى سبب لصلاح حالهم في حياتهم، ولا يجب على العاقل المنصف أن يقيس أحوال الملائكة في صفاء جوهرها وإشراق ذواتها واستغراقها في معارج معارف الله بأحوال البشر، فإن بين الحالتين بعد المشرقين. اهـ.